Sunday, November 28, 2010

ما للمحكمة لها وما للبنان لِساستِه

لم تبدأ رحلتي لفهم عمل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان خلال أولى زياراتي إلى لاهاي هذا العام. هي محاولة فهم مستمرة بدأت منذ لحظة تأسيس "لجنة التحقيق الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريري ورفاقه"، ومن ثم إسقاط هذه التسمية على المحكمة التي أنشئت لمحاكمة المجرمين، إلى أن غاب الاسم الحقيقي لـ"المحكمة الدولية الخاصة بلبنان" خلف صورة رئيس حكومة راحل

قبل 14 شباط 2005، كان الحديث في الداخل السوري يدور حول سقوط النظام، أو انفتاحه، على الأقل. في العراق، كان صدام حسين قد أُسِرَ وإجراءات محاكمته قد بُوشرت. في فلسطين، برزت شرارة انقسام حادّ امتدّت سريعاً إلى الخارج. وفي البيت الأبيض، اعتبرت إدارة بوش أن بشار الأسد غير راغب بالتعاون مع المشروع الإقليمي الجديد، أو غير قادر عليه

صبيحة اغتيال الحريري، كان واضحاً أثناء اجتماع في وزارة الخارجية السورية بين فاروق الشرع والسفيرة الأميركية في دمشق آنذاك، مارغريت سكوبي، أن الطرفين لا يتحدثان لغة واحدة. استدعيت سكوبي إلى واشنطن، وخفض التمثيل الأميركي الدبلوماسي مع دمشق، وبدأت سياسية عزلُ سوريا. أرجئت مفاوضات الاتحاد الأوروبي مع سوريا حول الشراكة المتوسطية. بدأ تقارب غير مسبوق ما بين الرئيسين الشابين نجاد والأسد. وتحددت خطوط معسكري الاعتدال والممانعة، في المشهد العربي. في لبنان، أُطلق حمامُ دمّ بقتلِ الحريري

لا يمكن الفصلُ ما بين عمل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وبين الظروف السياسية التي أدت إلى نشوئها، كما لا يمكن اعتبار عدم إنشاء محكمة خاصة بباكستان لمحاكمة قتلة بنازير بوتو، أيضاً، قراراً قضائياً بامتياز. بخلاف بوتو، لم يُقتل رفيق الحريري وحده. قتل أيضاً سمير قصير، بيار الجميل، جورج حاوي وآخرون. كثرٌ سقطوا على خطوط تماسِ معسكرَي الاعتدال والممانعة. في هذا السياق، السياسي بامتياز، أنشئت المحكمة

خلال رحلتي الحالية إلى لاهاي، استوقفني أن أقل من 10 موظفين لبنانيين (ما يعادل ثلاثة في المئة) يعملون في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، التي تتلقى 49 في المئة من تمويلها من الجمهورية اللبنانية. لم تحضر تجربة المحكمة الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة فقط في أروقة مجلس الأمن، حين صيغ قرار إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. هي حاضرة بشكل أقوى في روحية وأذهان كبار موظفي المحكمة الثانية، بمعزلٍ عن أن استقالات العام الأول لمحكمة لبنان فاقت بأشواط مثيلتها في محكمة يوغوسلافيا. وقريباً، ستلتحق ثلاث إستقالات جديدة برُكب المنسحبين من المحكمة اليانعة

في محكمة لبنان، يترأس مسجّل بالإنابة قلمها منذ أكثر من تسعة أشهر، بحثاً عن أصيل. ولا يزال مكتب الإدعاء يبحث عن متحدث، أو متحدثة، باسمه، منذ استقالة المتحدثة السابقة بعد ثلاثة أسابيع قضتها في لاهاي. وحين زار صحافيون لبنانيون المحكمة في إطار منتديين إعلاميين حديثين، بدأت الغشاوة تنقشع عن عيون موظفيها لما رأوا عيّنة مركّزة من انقسامات لبنان، حملها الصحافيون في حقائب سفرهم. حطّت الحقائب مجدداً في لبنان وفي داخلها تقارير إعلامية ذات خطوط متباينة. في اليوم التالي، قرأ المواطن اللبناني أنباءاً عن محكمتين دوليتين خاصتين بلبنان، هناك في لاهاي. محكمة مارقة تزعزع استقرار الوطن، ومحكمة قدسية تعزز دولة المؤسسات والقانون

محكمتان تتفقان على مسألة واحدة: العبء أكثر مما يحتمله الكاهل اللبناني العليل

وسط حركة ذهاب وإياب مكثفة بين بيروت وعواصم عربية وغربية، أعلن الأمين العام لحزب الله عن "تفاؤله" بالمساعي العربية لمداواة الأزمة اللبنانية، فيما تحدث جنبلاط عن "تعكير" لهذه المساعي بتدخلات غربية. أما في لاهاي، فالحركة تشبه درجة الحرارة، وحظر السفر إلى العاصمة اللبنانية حكمٌ أمني بالحبس ضد موظفي المحكمة. حركة بطيئة في لاهاي، غير أنها تنحسر عن نشاطٍ ملحوظ في مكتب الادعاء. وثمة كلامٌ جديّ، في أوساط قضائية، عن أن القرار الإتهامي "لن يمسَّ حزب الله وحده". بكلمات أوضح، القرار الإتهامي الوشيك لمدعي المحكمة الخاصة بلبنان لن يوجّه، على ما يتراءى، للبنانيين فحسب

اليوم، يختلف المشهد الإقليمي عما كان عليه صبيحة 14 شباط 2005. انتهى الكلام عن أي تغيير في سوريا. أنجزت الانتخابات العراقية وتم التوافق على شكل حكومة العراق. يفاوض الرئيس الفلسطيني من أجل التفاوض، و"حماس" لم تعد تشكك في شرعيته كرئيس فلسطيني. خلت ساحة الشهداء اللبنانية من أي وجود لحشود آذارية. استكملت زيارة نجل الحريري إلى دمشق الانقسام في صفوف ائتلاف 14 آذار. حسمَ جنبلاط الجولة الأخيرة من إعادة تموضعه في حضن الأقوى. تورّط حزب الله في وحول السياسة المحلية وتدهور خطابه من "الوعد الصادق" إلى "أعراض نسائنا"

قبل نحو شهرين، نقل مصدر دبلوماسي في نيويورك عن حملة فيتو في مجلس الأمن أن عدم دعم عمل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان "ليس خياراً متاحاً" طالما أن جريمة الإرهاب تمثل حالياً أولوية حيوية للمجتمع الدولي، وخاصة في ظلّ جملة مواقف حاسمة تبناها حملة الفيتو، على مراحل. جدير بالذكر، نقلاً عن المصدر نفسه، أن بيلمار الكندي لم يوافق هوى الفيتو الأميركي، باعتباره قاضياً "أهدأ مما يجب" و"أقل حنكة سياسية" مما تقبل به الدبلوماسية الأميركية

لم تعد استمرارية المحكمة مرتبطة بقرار سياسي لبناني، ولعلها لم تكن كذلك قط. هي سابقة في القانون الدولي من حيث معالجتها لجريمة الإرهاب. "الإرهاب" الذي لم يبدأ في لبنان ولم يتوقف عنده. و"الإرهاب" الذي لن يسهلَ على مجلس الأمن خنقُ أول محكمة دولية تحاكم مقترفيه. ولأنها أنشئت في سياق سياسي بامتياز، ما يزال للساسة اللبنانيين على الأقل، وعلى الأكثر كذلك، سلطة التأثير على الشارع لرسم شكلٍ، لا للقرار الاتهامي، بل لتبعاته

ليس لبيروت، بكل امتداداتها، أيّ سلطة على صدّ القرار الاتهامي

لاهاي - وسام طريف